الموت
رؤية الحياة كما هي ومآلها طوال الوقت ليس قتلًا للمتعة بل تهذيب عميق للنفس، عندما تعلم أنك مفارق من تحب وأنهم مفارقوك تحسن إليهم وتغفر زلاتهم وتلين معهم وتكبح جماح غضبك وتصبر عليهم، كان ولا زال أكثر مايهذبني ويعينني على بر والدّي أنه في يوم سوف أطلب هذا البر ولا أجده، البر الحضوري، محادثتهم، أن أجلس معهم وأرمي هاتفي بعيدًا وأنظر إليهم، أحادثهم وأمازحهم وأضحك معهم وأرفه عنهم بعضًا من هموم الحياة.
"والمتعة "مع هذه الفكرة-فكرة النهاية الحتمية- كأنها تكبر وتستولي على قلبك، فبدلًا من الحزن أنك مفارقهم أو هم مفارقوك يومًا تنغمس في حاضرك وتشربه حتى السكر، وعند الفراق لن تكون حزينًا على فوات، بل ستكون حزين لوصولك النهاية وانتهاء الوقت، فقد انغمست في الحياة حتى أعمق نقطة، وأخذت ماقدّر لك، وبذلت جهدك والآن يجب أن ترضى بالنهاية.
ولا ينطبق هذا على الآباء فقط، بل حتى الأبناء، فبدلًا من أن تتأفأف من صغر سنهم وعنادهم وإزعاجهم، تعلم في قرارة نفسك أنهم يومًا ما لن يركضوا خلفك وحولك بل سيركضون في الحياة، فيحملك هذا على الصبر عليهم وأحيانًا على استلطاف إزعاجهم لعلمك أن ازعاجهم سيكون لفترة من الزمن -وإن كانت سنين- لكنها سنين ستنقضي، فتهدأ روحك وتتعامل مع غضبهم وإزعاجهم بهدوء وثبات ثبات من يعلم أن هذه مرحلة فقط، مرحلة وإن طالت سيأتي يوم وتنقضي وتتحسف فيها على كل ثورة غضب كسرت فيها قلب ابنك لقلةِ صبرك، فتكون المتعة الحاصلة من تذكر مراحل الحياة وانقضائها حاضرة في صراخهم وعنادهم، فتضحك وأنت تنظر إليهم، لأنهم يوم ما سيكبرون وتتحسن سلوكياتهم وسوف يتعاملون معك معاملة الشخص البالغ لأنهم سيكونون أشخاص بالغين.
لم يكن الموت يومًا فكرة سيئة تجاه كوني حيًّا في الحياة، بل لطالما هذبني الموت وأجبرني على إعادة حساباتي من البداية وتقيم حياتي، ليس ديني فقط بس معاملتي مع من حولي، هل هكذا سيفعل من هو مفارقٌ لهذه الدنيا، يغضب ويفور ويحطم من حوله؟ يصرخ ويكسّر القلوب؟ أم يمضي في هذه الحياة خفيفًا ليصل إلى قبره خفيفًا. لا يجرفه سيل الحياة نحو الحطام ما دام حيّا بل يقف ثابتًا أمامها ويعلم أننا صائرون إلى رفات في يومً ما، لكن رفات ميت، لا رفات حي.
تعليقات
إرسال تعليق