هدنة الماضي

 

في روايته "هدنة لالتقاط الأنفاس" وهي الترجمة البديعة لـ"coming up for air" البطل جورج بولينج أب لطفلين متزوج من هيلدا يأخذنا في رحلة إلى عالم طفولته ومراحل شبابه والحياة، يقول في أول نص يتقاطع مع الماضي:" إن الماضي لشيء غريب. إنه يرافقك باستمرار. أعتقد أنه لاتمر ساعة على الإطلاق دون أن تفكر في أشياء حدثت منذ عشر سنين أو عشرين سنة … يأتي منظر أو صوت أو رائحة بالصدفة وخاصة الرائحة لتحفز ذكرياتك، ولا يأتي الماضي فحسب بل تصبح فعليًا في الماضي .."
تمكن جورج أورويل المؤلف من صياغة كل الأحاسيس التي تشعر بها عندما تتقاطع مع الماضي أو لنقُل الطفولة بشكل عام وحتى الأحاسيس التي لم تكن تعلم بوجودها فهو يقول أنه كلما تذكر الماضي تذكر منه أيام الصيف، وهو معنى بديع جدا ودقيق، لماذا؟ لأن أيام الصيف هي أمتع أيام الطفولة حيث الحرية والملابس الخفيفة والآيسكريم والمسابح .." أرى الصيف دائمًا عندما أتذكر الماضي، يمكنني الشعور بالعشب من حولي وهو في طولي ، والإحساس بالحرارة الصاعدة من الأرض "
ومن ثم يتحدث عن اللقاء الأول مع أماكن اعتادها في طفولته لكنه لم يزرها قط في أيام شبابه فيقول في دهشة البالغ: "إنها لتجربة غريبة أن تعود إلى مكان ما في الريف لم تره منذ عشرين سنة؛ إذ تتذكره بكل تفاصيله ولكنك تكتشف أن كل ماتتذكره غير صحيح، فكل المسافات مختلفة ويبدوا أن العالم قد تغير، -بالطبع هذا التل كان شديد الارتفاع-" خامرني نفس الشعور عندما ذهبت في فترة قريبة لأزور بيت جدتي ـ رحمها الله-، ويتميز بيتها بأنه على أعلى
تلة بوسط المدينة القديمة في بريدة، وكان هناك منحدر كبير جدًا ولكأنما تقطع أميالًا عندما تود النزول والصعود من عليه، فإذا بي بجسدي البالغ أدرك بأنه أصغر مما كان عليه بل يمكنني أن أصعد وأنزل من عليه بخطوات معدودة.

 تلك الذكريات من الطفولة التي لا تشوبها شائبة، هل اختلفت ذكرياتي بعد أن رأيت المكان وأنا بالغة؟ نعم، إذا تذكرته في أيام صباي تتزامن الصورة مع الصورة الحديثة للمكان، يقول سيد بولينج: "أتيت إلى لوير بينفيلد وفي رأسي تساؤل مالذي ينتظرنا؟ هل أُعلن القرار بالفعل؟ هل بإمكاننا العودة إلى الحياة التي اعتدنا أن نعيشها أم أنها انتهت للأبد؟ حسنًا حصلت على إجابتي، الحياة القديمة قد انتهت"

أردت أن أختم هذه التدوينة بهذا النص الحزين، لكنّ الحياة لا بُد وأن تعبر من خلالها وتترك الماضي خلفك بهدوء، يعود أورويل بالسيد بولينج إلى الحاضر في صورة بديعة جدًا ويختتم في هذه الصورة البهيجة هذه الرواية التي مُلأت بكل أنواع المشاعر:" اندفعت إلى الدرج ولكن في اللحظة نفسها رأيت الطفلين في ملابس النوم يخرجان من غرفتيهما…
 -أوه، أبي! أوه، إنه أبي !  لم رجعت اليوم؟ قالت أمي إنك لن تأتي قبل يوم الجمعة
أين أمكما؟
أمي بالخارج. لقد خرجت مع السيدة ويلر. لماذا رجعت اليوم يا أبي؟
… ولكن أين هدايانا يا أبي؟
أي هدايا؟"
وبعد أن يقابل زوجته وأبناءه ينغمس جورج بالحاضر وتنتهي الرواية.

تعليقات

المشاركات الشائعة